{حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)} [الشورى: 42/ 1- 6].افتتحت هذه السورة بالحروف الأبجدية للتنبيه على ما يوحى فيها، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن المتكون من الحروف العربية التي ينطقون بها ويكتبون، فهل لهم أن يأتوا بمثل القرآن أو بمثل سورة منه؟ فعجزوا وذلك دليل إعجاز القرآن، وإعجازه دليل على أنه من عند اللّه وحده.والوحي قديم، فمثل هذا الوحي المنزل عليك أيها الرسول، أوحى اللّه إلى سائر الأنبياء والرسل، من الصحف والكتب المنزلة، والذي يوحي: هو اللّه العزيز في ملكه، الغالب بقهره، الحكيم في صنعه، والموحى به متفق في الجوهر والغاية والمضمون. وهو الدعوة لتوحيد اللّه، وإثبات النبوة، والإيمان بالبعث واليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب، وثواب وجزاء، والتخلق بمكارم الأخلاق، والبعد عن الرذائل. والله منزل الوحي: له جميع ما في السماوات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، وهو العلي الأعلى المتعالي فوق خلقه، المتصف بالعظمة التي لا حدود لها، وبالكبرياء الذي لا يوصف. فقوله: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} أي الملك والخلق والاختراع. و(العلي) من علو القدر والسلطان. وكذلك (العظيم) في معناه.وليس المقصود علو المسافة، ولا عظم الشيء أو الجرم.ومن دلائل عظمة اللّه: أن السماوات تكاد تتصدع وتتشقق من سرعة جريهن، خضوعا وخشية من سلطان اللّه تعالى، وتعظيما له وطاعة، والتصدع من الجهة الفوقانية، لقوله تعالى: {مِنْ فَوْقِهِنَّ} أي من أعلاهن.ومن آيات العظمة الإلهية: أن الملائكة الكرام يداومون على تنزيه اللّه تعالى عما لا يليق به ولا يجوز عليه، قارنين التسبيح (أي التنزيه) بالتحميد، وشكر النعم التي لا تحصى. ومن نعم اللّه تعالى: أن الملائكة يطلبون المغفرة لعباد اللّه المؤمنين، ومن أفضال اللّه: أنه سبحانه كثير المغفرة والرحمة، فهو يقبل استغفار الملائكة، لأنه قرن الرحمة بالمغفرة. وهذا كما في آية أخرى تدل على فضل اللّه وهي: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7)} [المؤمن: 40/ 7] وقوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي يقولون: سبحان اللّه وبحمده. وقوله سبحانه: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} ليس على عمومه، وإنما معناها الخصوص في المؤمنين، فكأنه تعالى قال: ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين، بدليل قوله تعالى في آية (المؤمن): {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} إذ الكفار عليهم لعنة اللّه تعالى والملائكة والناس أجمعين.ثم توعد اللّه تعالى أهل الشرك والكفر محذرا لهم، ومؤنسا نبيه عليه الصلاة والسّلام، مما يعانيه من إعراض قومه عن دعوته، فقال: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} أي إن الذين اتخذوا الأصنام والأوثان آلهة يعبدونها من دون اللّه، والحفيظ عليهم كفرهم، المحصي لأعمالهم، المجازي لهم عليها بعذاب الآخرة، ولست أيها الرسول عليهم بوكيل يلي أمورهم، ولا يسأل عن هدايتهم، ولا يؤاخذ بذنوبهم، ولا يلازم أمرهم حتى يؤمنوا، إنما عليك التبليغ فقط، دون قسر أو إجبار على الإيمان. و(الوكيل) القيم على الأمر.هذه الطائفة من الآيات، تضع حد المواجهة الساخنة بين اللّه تعالى صاحب العزة والملك والجبروت، وبين أهل الشرك وعبادة الأوثان.مقاصد القرآن الكريم:دعا القرآن العظيم المنزل بلسان عربي مبين، إلى وحدة الإله، فهو سبحانه إله واحد، لا يتعدد ولا يقبل التعدد، وإلى طاعة اللّه عز وجل، فمن أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، وإلى الإيمان بالله بطريق الاختيار لا بالجبر والإكراه، واللّه قادر على جعل الناس قاطبة على دين واحد، ودعا أيضا إلى وحدة الفكر والعمل والسلوك، فإذا وقع اختلاف، فمرده إلى اللّه وكتابه، وأرشد إلى التوكل على اللّه خالق السماوات والأرض، وبيده مفاتيح الخزائن والنعم من المطر والنبات وغيرهما، والرازق لمن يشاء، والمنعم بالحياة الزوجية، وبتسخير الأنعام المزدوجة لعباده، وليس كمثله شيء وهذا ما عبرت عنه الآيات الآتية: